نهرو طنطاوي (مدرّس بالأزهر)
قد يكون العنوان مفاجأة للبعض أو للكثير ممن تقع أعينهم على هذا العنوان، وقد يظن البعض أننا وضعنا هذا العنوان بغية الإثارة ولفت الأنظار. ولكن هذه هي الحقيقة. فإن من يطالع العقائد الإلهية لطوائف المسلمين الكبرى الآن والمتمثلة في المذهب السني والمذهب الشيعي، يجدها بالفعل تعود فلسفة أصولها إلى فلسفات عقائد لاهوتية مسيحية، وإن اختلفت المسميات وعناصر الموضوعات إلا أنها في أصل فلسفتها هي فلسفة لاهوتية مسيحية.
فبعد البحث والدراسة الجادة والمضنية والتي استغرقت الكثير من الوقت حول هذه القضية، رأيت أن أقوم بنشرها في سلسلة من المقالات حتى يتسنى للقارئ الوقوف على حقيقة هذه القضية العقائدية الخطيرة والتي تمس أصل أصول الديانة الإسلامية. وهذه السلسلة من المقالات تأتي تباعا أحاول من خلالها تفكيك الموروث العقائدي الإيماني للمسلمين بدءا من نشأة ما يسمى (بعلم الكلام) أو (علم التوحيد) أو (علم العقائد) وانتهاءً بما وصل إليه المسلمون اليوم من تخلف وتشرذم ووثنية. هذا الموروث العقائدي الوثني المسكوت عنه أو المغفول عنه من جميع المهتمين بالفكر الإسلامي سواء التقليديين الأصوليين، أو المفكرين الإصلاحيين المجددين للخطاب الديني الإسلامي. بل إن جميع المجددين للخطاب الديني الإسلامي بلا استثناء قد انطلقوا في خططهم الإصلاحية التجديدية من هذا الموروث العقائدي الوثني، وذلك لأن منطلقاتهم الفكرية الإصلاحية لم تبدأ من أصل أصول الإسلام وهو القرآن، بل انطلقت هذه المحاولات الإصلاحية من الفكر المعتزلي الذي لا يقل وثنية عن الفكر السني والشيعي، وانطلقت من إصلاح التراث والفقه والأصول والتاريخ وغيرها من البدايات، بينما تجاهلت هذه المحاولات تماما البدء من إصلاح العقائد الإلهية التي هي أصل الأصول واللبنة الأولى في أي بناء ديني. وبالتالي لم يتوصل أي من الإصلاحيين منذ محاولة الشيخ محمد عبده (الخجولة والممنتجة) وإلى الآن إلى خطة إصلاح ديني حقيقة، مما جعل النقص والمنطلقات الفكرية الشخصية المنحازة يمثلان السمة العامة لكل الخطط الإصلاحية، وهذا ما سوف نقف عليه في هذه السلسلة من الدراسة الهامة والخطيرة.
وهنا أقول بل أجزم بأن أي خطة إصلاح ديني لأي دين لا تبدأ من إصلاح العقائد الإلهية أولاً فمصيرها إلى المتحف. وهذا لا ينطبق على الدين الإسلامي فقط بل يطال جميع الأديان السماوية. وإن ما حدث في الغرب مع الكنيسة الكاثوليكية لم يكن نتاجا لما يظنه البعض بالثورة (الإصلاحية) لمارتن لوثر، إن ما حدث في الغرب لم يكن إصلاحا على الإطلاق سببته ثورة مارتن لوثر، وإنما كان انقلابا من قبل الثورة الفرنسية العلمانية على الديانة المسيحية المتمثلة في رجال دينها وتبعها فيما بعد بقية بلدان الغرب في ذلك الانقلاب. فالمسيحيون الغربيون هم الآن أشبه ما يكونوا بحالة الإلحاد الشتوي (البيات الشتوي) والتي سببها الأول حالة الثراء وبريق الترف المادي والحضاري المبهر والذي جاء نتيجة للتطور العلمي والتكنولوجي. لكن عندما تحتدم المواجهة ويحتدم الصراع الديني بين أتباع الأديان عندها ستكون كلمة البابا هي العليا وكلمة العلمانية هي السفلى، وما جورج دبليو بوش رئيس عصابة المحافظين الجدد منا ببعيد.
وقبل عرض مضمون هذه القضية الخطيرة والتي لم ينتبه إليها معظم المسلمين في الوقت الحاضر، أود ابتداء أن أعرض تمهيدا تاريخيا سريعا حول جذور هذه القضية الخطيرة التي بالطبع هي نتاج التقليد الأعمى للسلف والتقديس الأعمى للتراث، هذا التقليد الذي أعمى عيون المسلمين عن تلمس هذه الحقيقة الجذرية والتي تمس أول ما تمس القاعدة الإيمانية الأم للديانة الإسلامية وهي عقيدة الإيمان بذات الله، ويأتي التمهيد لهذا الموضوع على النحو التالي:
إن ما يسمى بـ (علم الكلام) أو (علم التوحيد) الإسلامي هو عبارة عن: مجموعة من الأدلة والبراهين العقلية التي يقصد منها إثبات صحة العقائد الدينية المتعلقة بوجود الله ووحدانيته وإثبات ذاته وصفاته وعلاقة الله بالعالم والمخلوقات وخصوصا علاقة الله بالإنسان.(هذا التعريف هو خلاصة ما جاء من تعاريف لهذا العلم كما ورد في كتب العقائد الإسلامية),
وأود الإشارة هنا إلى أن البعض قد حاول الربط بين علم الكلام الإسلامي وبين الفلسفة، بل اعتبر البعض أن بداية ونشأة علم الكلام الإسلامي كان بمثابة البذرة الأولى للفلسفة الإسلامية. لكني أرى أن علم الكلام الإسلامي لا يمكن الربط بينه وبين الفلسفة إذ إن علم الكلام يبدأ من الإيمان التسليمي بمعنى أن منشأ علم الكلام الإسلامي هو الإيمان، وذلك على عكس الفلسفة تماما، والتي لا تبدأ من الإيمان التسليمي، بل تحلل هذه البدايات إلى مبادئها الأولى. وبالتالي يخطئ من يخلط بين الفلسفة وعلم الكلام الإسلامي من ناحية البدايات. بل دعني أقول إن علم الكلام الإسلامي قد سلم بنقاط كثيرة أعفى العقل من الخوض فيها بل اعتبرها أمورا تفوق إدراك العقل. وبالتالي تم التسليم والإيمان بها رغم عدم موافقتها لثوابت العقل, وهذا على عكس الفلسفة التي لا تسلم بشيء ما لم يتوافق وثوابت العقل.
ومما سبق يمكنني القول أن علم الكلام الإسلامي وإن كان قد اعتمد بعض الأدلة والبراهين العقلية على إثبات بعض العقائد الدينية إلا أن هناك الكثير من العقائد الإيمانية التي أعفي منها العقل بحجة أنها تفوق إدراك العقل وأوجب الإيمان التسليمي بها حتى وإن لم تتوافق مع النظر العقلي.
وبالتالي يتضح للباحث المدقق في موضوعات علم الكلام (الأسماء والصفات – خلق أفعال العباد – ذات الله- كلام الله) بأن هناك العديد من المآزق العقلية التي لم تنج منها طائفة من طوائف المسلمين بما فيها المعتزلة التي يتشدق البعض بأنها أكثر طوائف الإسلام إعمالا للعقل, ولكن من خلال دراستي وبحثي في هذا الأمر اتضح لي عكس ذلك. فالمعتزلة كان لها اجتهاد (عقلي) في المسمى الظاهر للموضوعات العقائدية وشعارها العام فقط. ولكن عندما نأتي على التفصيلات الاعتقادية للمعتزلة نرى أن خصوبتها الفكرية لم تزهو إلا في ظواهر المسائل وإعلانها وشعارها العام. أما أسس وأصول المسائل الاعتقادية فهي نفس الأسس والأصول التي تقوم عليها عقائد بقية طوائف المسلمين، وسوف نجد أن الخلاف الوحيد الذي يمكن تلمسه هو خلاف في الكم والكيف وليس في الأصل والنوع. وهذا ما سوف نبينه ونوضحه في هذه السلسلة من المقالات التي نحاول من خلالها الغوص في الموروث العقائدي (علم الكلام) للطوائف المسلمة الكبرى(السنة والشيعة). فالشيعة كما يظن البعض أنهم الوريث الوحيد لفكر المعتزلة الكلامي أي في عقائد أسماء الله وصفاته، بغض النظر عن الخلاف حول من أخذ من من ومن تأثر بمن؟، إلا أن الحقيقة الواضحة الأكيدة هي أن هناك إتفاقاً تاماً بين فلسفة عقائد الشيعة وفلسفة عقائد المعتزلة في مسألة أسماء الله وصفاته، والتي هي لب موضوع هذه الدراسة.
إن الباحث فيما يسمى بعلم الكلام الإسلامي يجد أن هذا العلم قد استحدث الكثير من المسائل والمصطلحات العقائدية التي لم ترد نصا في القرآن الكريم كمسائل ومصطلحات من مثل: خلق أفعال العباد – خلق القرآن – علاقة ذات الله بصفاته وأسمائه – فلسفة الجواهر والأعراض، وغيرها من المسائل والمصطلحات المستحدثة والتي هي عبارة عن مصطلحات ومسائل اجتهادية تأويلية للتوفيق بين العقل والنص.
ويرجع السبب الرئيسي في استحداث هذه المسائل والمصطلحات العقائدية أو ما يسمى بعلم الكلام إلى مواجهة التحديات الدينية والعقائدية الفلسفية المطروحة من أهل الأديان والفلسفات السابقة على الإسلام. فقد واجه المسلمون في النصف الثاني من القرن الأول الهجري سيلاً من المعتقدات الدينية والفلسفات اللاهوتية الناجمة عن الاختلاط بين المسلمين وبين غير المسلمين من الفرس واليهود والنصارى وغيرهم من أهل الأديان، الذين أحدثوا لدى المسلمين العديد من المشكلات العقائدية الفكرية والفلسفية التي استهدفت الأساس الديني للعقيدة الإسلامية. فما كان من فقهاء وعلماء الدين المسلمين إلا الوقوف في وجه هذه الأفكار التي تختلف اختلافا جذريا مع العقيدة الإسلامية، حيث لم يكن من الممكن أن يتعامل المسلمون بالنص القرآني المجرد مع أفكار غير المسلمين الدينية المشبعة بآليات الفلسفة اليونانية وآليات المنطق الصوري اليوناني. فالنص القرآني المجرد غير معترف بمشروعية مصدره الإلهي لدى غير المسلمين, فكان لا بد من أن يتجه المسلمون إلى الأدلة والبراهين العقلية لإثبات صحة القواعد الإيمانية للإسلام والدفاع عنها.
ولكن سرعان ما تحول الفكر الإسلامي من الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد التحديات الدينية والفكرية لغير المسلمين إلى التصارع والاختلاف بين المسلمين أنفسهم, مما حدا بهم إلى التفرق والتحزب الفكري بين بعضهم البعض. وغدت الفرق الإسلامية المختلفة متأثرة بالأفكار الفلسفية اللاهوتية لغير المسلمين. بل إن من المفارقات العجيبة أن معظم الفرق الإسلامية الكبرى (السنة – الشيعة – المعتزلة) قد اعتنق العقائد اللاهوتية والفلسفية لغير المسلمين وألبسوها ثوب الإسلام أو العكس، وهذا ما سوف نراه في هذه الدراسة بصورة قطعية لا لبس فيها.
إذاً، أصبح علم الكلام الإسلامي بدلا من أن يواجه الأفكار اللاهوتية والعقائدية الفلسفية لغير المسلمين، وبدلا من أن يدافع عن العقيدة الإسلامية القرآنية البسيطة والتي لا تعقيد فيها ضد الأفكار اللاهوتية الغريبة، أصبح علم الكلام عامل تفريق للمسلمين أنفسهم. بل إن الأدهى والأمر أن معظم الفرق الإسلامية الكبرى قد اعتنقت الأفكار اللاهوتية والفلسفية العقائدية لغير المسلمين، عندما تبنت كل طائفة من طوائف المسلمين فلسفة لاهوتية غير إسلامية وغير قرآنية للدفاع عن مذهبها ضد المذاهب الإسلامية الأخرى، كما سنرى فيما بعد.
إن من أكثر مواضيع علم الكلام الإسلامي على سبيل المثال تأثرا بفلسفات اللاهوت المسيحي هو موضوع الأسماء والصفات (أسماء الله وصفاته) وعلاقتها بالذات الإلهية, فبعد الدراسة المتعمقة لهذا الموضوع اتضح أن طائفة أهل السنة والجماعة يتبنون نفس فلسفة عقائد المسيحيين الكاثوليك, واتضح أيضا وبصورة قطعية أن طائفة المعتزلة والشيعة يتبنون نفس فلسفة عقائد المسيحيين الأرثوذكس في مسألة الأسماء والصفات وعلاقتها بالذات الإلهية, بحيث يمكنني أن أجزم بالقول: إن علم الكلام الإسلامي هو النسخة الإسلامية لعلم اللاهوت المسيحي إذ لا فرق بينهما إلا في المسميات وعناصر الموضوعات.
وسوف نتناول في هذا المقال الذي بين أيدينا الفلسفة العقائدية الكاثوليكية لمذهب أهل السنة والجماعة على النحو التالي:
بعد أن توفي الرسول محمد عليه الصلاة والسلام مباشرة بدأت الصراعات السياسية والخلافات تدب بين أتباعه والتي وصلت إلى المواجهات المسلحة في حروب الردة وموقعة الجمل وصفين، وبعدها غزو بلاد فارس ومصر وغيرها من البلدان المجاورة. ثم بدأ الاختلاط بين المسلمين وغير المسلمين من أبناء تلك البلدان التي تم غزوها.
وبعد أن أنهكت الصراعات السياسية المسلمين وشغلتهم عن مبادئ الدين التي جاء بها القرآن وأرسى الرسول عليه الصلاة والسلام قواعدها العملية السلوكية، بدأ المسلمون يواجهون بحرب لكن من نوع آخر، هذه المرة كانت حرب الأفكار والمعتقدات الدينية والتي كانت تتسلح بآليات فلسفية لم يعهدها العرب من قبل. ومن هنا بدأ الفقهاء المسلمون والعلماء الدينيين بالاطلاع على كتب أهل البلدان التي تم غزوها وكانت هذه الكتب تحوي العديد من الفلسفات الدينية المختلفة. وبعد أن تم ترجمة هذه الكتب وهذه الفلسفات والعلوم الدينية إلى العربية، حدث أن هناك عددا كبيرا جدا من علماء وفقهاء المسلمين تأثروا بهذه الفلسفات وهذه العلوم اللاهوتية لغير المسلمين، هذه الفلسفات التي حاولت وضع تصور عقلي لذات الله وعلاقة الذات بالأسماء والصفات الواردة في القرآن. وما لبث المسلمون طويلا حتى دب إلى عقائدهم وأفكارهم كثير من هذه الفلسفات الدينية لغير المسلمين، ثم قاموا بمحاولة أسلمة هذه الفلسفات أو بمعنى آخر أن يُلبسوا الإسلام ثياب هذه الفلسفات وهذه الأفكار أو العكس, وبما أن لكل فلسفة من هذه الفلسفات تصورها الإلهي والديني الخاص بها فقد بدأت من هنا الفلسفات اللاهوتية المختلفة وخصوصا المسيحية منها تدب إلى عقائد وأفكار المسلمين ومن ثم بدأ تفرق المسلمين عقائديا حيث اعتنقت كل طائفة من طوائف المسلمين فلسفة لاهوتية مسيحية الأصل مضادة لفلسفة الطوائف المسلمة الأخرى ونصرة لمذهبها. وكانت القضية الكبرى التي فرقت المسلمين عقائديا وإيمانيا هي قضية التصور العقلي لذات الله وتصور علاقة الذات بأسمائه وصفاته ونرى ذلك بكل وضوح في الفلسفة العقائدية الكاثوليكية لمذهب أهل السنة والجماعة على النحو التالي:
# الفلسفة العقائدية الكاثوليكية لمذهب أهل السنة والجماعة:
وحتى نبسط الأمر للقارئ نقول الآتي:
إن جميع طوائف المسلمين يعتقدون بأن الله له أسماء وصفات سواء السنة الذين هم في الأصل أشاعرة وماتريدية, أو المعتزلة, أو الشيعة أو غيرهم من الفرق والطوائف باستثناء عدة طوائف أو أشخاص قالوا بنفي الأسماء والصفات مطلقا مثل الضرارية والبرغوثية والجهمية والزعفرانية والمستدركة والنجارية ومن الأشخاص الجعد بن درهم الذي قتله خالد القسري لأنه كان ينفي عن الله الأسماء والصفات, وأيضا الجهم بن صفوان مؤسس فرقة الجهمية وغيرهم وهذه الطوائف تم محاربتها والقضاء عليها اندثرت ولم يعد لها وجود في عصرنا الحالي.
ويمكن تلخيص العقيدة الإلهية للفرق الكبرى من المسلمين (السنة، الشيعة، المعتزلة) بشكل عام في النقاط التالية:
1- الله له ذات وله أسماء وصفات.
2- السنة يثبتون لله ثلاث عشرة صفة.
3- الشيعة والمعتزلة يثبتون لله ثمان صفات.
4- السنة يرون أن لله ذات مجردة وأن علاقة الصفات بالذات أنها ثابتة له زائدة على الذات.
5- أما الشيعة والمعتزلة فيرون أن صفات الله ثابتة له لكن علاقتها بذات الله أنها عين ذات الله وليست زائدة على الذات.
وبشيء من التفصيل نقول: إن الفرق الإسلامية الرئيسية الكبرى, الأشاعرة والماتريدية – وهم أهل السنة الآن – والمعتزلة والشيعة كان خلافهم الأساسي في كيفية وضع تصور عقلي لعلاقة الأسماء والصفات بالله، ومن ثم كان لكل منهم تصوره الخاص والمختلف حول علاقة الأسماء والصفات بالذات الإلهية, فنرى المعتزلة والشيعة يعتقدون أن لله صفات ثمانية هي: (القدرة – العلم – الحياة – الإرادة – الإدراك – الكلام – الصدق السرمدية).
بينما السنة يعتقدون أن لله ثلاث عشرة صفة هي: (الوجود – القدم – البقاء – المخالفة للحوادث – القيام بالنفس – الوحدانية – الحياة – القدرة – الإرادة – العلم – السمع – البصر – الكلام).
والخلاف الرئيسي بين كل من السنة من جانب والشيعة والمعتزلة من جانب آخر لم يكن في عدد الصفات فقط بل كان وما زال الخلاف الرئيسي حول كيفية إثبات تصور عقلي لعلاقة هذه الصفات بالله, بمعنى أن الشيعة والمعتزلة كانوا يقولون ويعتقدون أن صفات الله هي عين ذاته, بينما السنة كانوا وما زالوا يقولون ويعتقدون أن صفات الله ثابتة له لكنها زائدة على الذات, ويمكن تفصيل ذلك بعرض تصور كل فريق في إثبات تصوره الفكري لعلاقة الصفات بذات الله ومن ثم نعرض المبررات العقلية التي يستند إليها كل فريق لإثبات تصوره ودحض التصور الآخر وذلك على النحو التالي :
بعد الخلاف والتفرق الذي نشب وازدهر بين المسلمين الأوائل والذي برز بوضوح في بدايات القرن الثاني الهجري، بدأ هذا الخلاف بمرور السنين وحتى وقتنا الحاضر بدأ ينحصر معظمه في طائفتين رئيستين هما طائفة أهل السنة وطائفة الشيعة, وظل الخلاف بين هاتين الطائفتين موجودا حول مسألة علاقة الصفات بالذات الإلهية حتى يومنا هذا.
فذهبت الشيعة كما سنرى في المقال القادم (العقيدة الأرثوذكسية للمذهب الشيعي) إلى أن صفات الله هي عين ذاته، بمعنى أنهم أثبتوا لله ثمان صفات هي: (القدرة – العلم – الحياة – الإرادة – الإدراك – الكلام – الصدق – السرمدية), ثم قالوا إن الصفات الثمانية هذه مجتمعة تمثل ذات الله الواحدة بمعنى أن هذه الصفات هي عين الذات وليست خارجة ولا زائدة على الذات بل هي عين الذات وليس هناك أي فرق أو تمايز أو اتحاد بين مفهوم تلك الصفات, فالله حي من حيث كونه عالم, وعالم من حيث كونه حي, فالفرق بين هذه الصفات هو في تصورنا نحن الذهني أما في الذات فليس هناك أي فرق أو تمايز أو اتحاد, فالله كله علم وكله قدرة وكله إرادة وكله حياة ولا فرق بين مفهوم صفة وأخرى, فهو عالم بالذات وقادر بالذات ومريد بالذات دون اتحاد أو تمايز بين مفهوم كل صفة وأخرى.
ويمكننا أن نقرب الفهم أكثر حول عقيدة الشيعة والمعتزلة في مسألة علاقة الأسماء والصفات بذات الله، فنقول المثال التالي: مثلا زيد لديه ثلاثة أولاد عمرو وأحمد وسعيد، يرى الشيعة أن عمرو وأحمد وسعيد مجتمعين يمثلون شخص زيد الواحد، ، لأنه كما يعتقد الشيعة والمعتزلة أنه لا فرق إطلاقا بين معنى ومفهوم كل من عمرو وأحمد وسعيد، فالفرق فقط يتمثل في الذهن البشري من حيث الأسماء المختلفة، أما في الجوهر والحقيقة فإن زيد الأب هو عمرو وهو أحمد وهو سعيد، هكذا هي فلسفة عقيدة كل من الشيعة والمعتزلة في علاقة صفات الله بذاته سبحانه، وكما نرى فهي عقيدة لا يمكن للعقل أن يستسيغها إطلاقا، لذلك دائما ما يقول الشيعة أن هذه مسألة تتجاوز إدراك العقل، بمعنى أنها عقيدة غير عقلية. هذا بالنسبة لاعتقاد الشيعة في مسألة علاقة الصفات بذات الله والذي سوف نتناوله في المقال القادم بشيء من التفصيل والإيضاح.
أما اعتقاد اتباع المذهب السني في علاقة صفات الله بذاته فهو مغاير تماما لتصور أتباع المذهب الشيعي، وسوف نعرض له بشيء من التفصيل مع المقارنة بينه وبين فلسفة العقيدة الكاثوليكية في علاقة الطبيعة اللاهوتية بالطبيعة البشرية في شخص المسيح حتى نتبين مدى التشابه بل مدى التوحد بين اعتقاد المذهب السني في مسألة صفات الله وبين المذهب الكاثوليكي المسيحي في مسألة طبيعة المسيح وذلك على النحو التالي:
# ماهية الصفات التي أثبتتها العقيدة السنية لله وعددها:
يرى أتباع المذهب السني أن العقيدة الحقة في مسألة الصفات هي: أن لله ثلاثة عشر صفة ثابتة لا تتغير ولا يمكن سلبها عن الله إذ إن سلبها عن الله يوجب النقص لله والنقص محال على الله. وهي الصفات التي سبق ذكرها، وقد قال السنة بزيادة خمس صفات ثابتة عن عدد الصفات التي أثبتها الشيعة لله وعددها ثمان صفات فقط، بينما يرى كل من السنة والشيعة والمعتزلة أن لله صفات أخرى غير الصفات الثابتة سالفة الذكر، وهذه الصفات تسمى بصفات الفعل، بمعنى أنه من الممكن أن ننسبها إلى الله في بعض الأحيان ومن الممكن أن نسلبها عنه في أحيان أخرى مثال: يمكننا أن نقول أن الله خلق كذا ولم يخلق كذا، ورزق فلان ولم يرزق فلان، إذاً، فنفي صفات الفعل هذه عن الله لا توجب له نقص، بخلاف الصفات الثابتة، فلا يمكن أن يقال إن الله عالم بكذا وليس عالما بكذا، ولا يمكن أن يقال إن الله قادر على شيء وليس بقادر على شيء آخر، فسلب صفة من الصفات الثابتة لله يلحق النقص بالله وهذا محال كما يرى ذلك كل طوائف المسلمين بلا استثناء.
فذهب أتباع المذهب السني أن هذه الصفات الثابتة لله والتي لا يمكن سلبها عنه وعددها ثلاث عشرة صفة لابد أن يتصف الله بها ولو لم يتصف الله بهذه الصفات لاتصف بضدها وهذا محال على الله, فمثلا : الله عالم وقادر ولو لم يكن عالم وقادر لاتصف بالضد وهو الجهل والعجز, واعتقدوا أيضا أن الله موصوف بكل صفات الفعل الأخرى التي وردت في القرآن وفي ما يسمى بالسنة، لكن كيفية هذه الصفات ليست هي كيفية الصفات التي نعرف نحن البشر معانيها وحدودها، وإنما صفات لا يعلم كيفيتها إلا الله, وهي ليست كصفات البشر.
ومثالا على ذلك فقد ورد في القرآن أن الله له مجيء ومعية ويد ووجه وعين, واستواء وغيرها من صفات الفعل لكن ليس مجيئه كمجيئنا وليست يده كأيدينا وليس وجهه كوجوهنا وليست عينه كأعيننا, إنما هي صفات ليس كمثلها شيء.
ثم قالوا إن هذه الصفات معناها ومفهومها معروف لكن كيفيتها غير معروف والإيمان بها واجب والسؤال عن كيفيتها بدعة لأن كيفيتها مجهولة لنا, واتبعوا في ذلك الإمام مالك بن أنس مؤسس المذهب المالكي الذي قال حين سئل عن كيفية استواء الله على عرشه: (إن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة), ومنذ تلك الإجابة التي أجاب بها الإمام مالك على هذا السؤال وأصبحت هذه الإجابة لدى أتباع المذهب السني دينا مقدسا يعد من خرج عليه أو من سأل عنه فهو مبتدع ملحد ضال.
هذا ما جاء في عقيدة أهل السنة حول ماهية صفات الله وعددها ونلخصها على النحو التالي:
1 – لله ثلاث عشرة صفة ثابتة له لا تتغير ولا يمكن سلبها عن الله فسلبها يلحق النقص بالله.
2 – لله صفات أخرى غير ثابتة له تسمى بصفات الفعل وهذه يمكن سلبها عن الله وسلبها عن الله لا يلحق به النقص.
3 – يحرم السؤال عن كيفية صفات الفعل فالسؤال عن كيفيتها بدعة وضلال.
4 – ضرورة وحتمية الإيمان بهذه الصفات مجتمعة وإثباتها لله دون تشبيه لها بصفات المخلوقين أو تمثيل أو تكييف أو تعطيل.
بقي لنا أن نستعرض فلسفة المذهب السني حول علاقة صفات الله الثابتة بذاته سبحانه؟ وهل هي عين ذات الله كما قال بهذا المعتزلة والشيعة؟
الإجابة على هذين السؤالين تأتي في المحور الآتي:
# نوع العلاقة بين صفات الله وذاته:
ذهب السنة إلى أن علاقة الصفات الثابتة لله هي علاقة قائمة بذاته زائدة على الذات, وتوضيحا لهذا الكلام نقول: اعتقد السنة أن القول الذي ذهبت إليه المعتزلة والشيعة بأن صفات الله عين ذاته هو قول يؤدي إلى الاعتقاد بوجود تركيب وتجزؤ في ذات الله وهو اعتقاد لا يستسيغه العقل كما سبق وأن مثلنا له، وعليه فاعتقد أتباع المذهب السني أن عقيدة المعتزلة والشيعة عقيدة قد جانبها الصواب لأن هذا الاعتقاد يؤدي إلى إثبات ذوات قديمة أزلية في ذات الله الواحد بمعنى أن الصفات الثمانية لو لم يكن لها معاني مختلفة لاستحال ثبوت أثر أي منها.
ونضرب مثالا للتوضيح: يرى أتباع المذهب السني في انتقادهم لعقيدة الشيعة والمعتزلة أنه إذا كان من صفات الله الثابتة أنه قوي رحيم فلا يمكن أن يتصور عقل أن يرحم الله بالقوة أو أن يقوى بالرحمة، لأن في ذلك نفي لمدلول محل كل صفة من هذه الصفات, وإذا انتفى معنى صفة من هذه الصفات انتفى مدلولها بالقطع أو ثبت تناقض الذات، بمعنى كيف تكون ذات الله كلها علم وفي الوقت نفسه كلها قدرة, وكيف تكون الذات كلها سمع وفي الوقت نفسه كلها بصر، فاعتبر السنة أن هذا الاعتقاد فيه مخالفة لثوابت العقل ولا يمكن أن يخبر الله عن ذاته بما يخالف ثوابت العقل. إذن فما هي عقيدة السنة في علاقة الصفات بالذات؟
يرى أتباع المذهب السني أن في عقيدة الشيعة والمعتزلة عقيدة وثنية تقول بالتركيب والتجزؤ في ذات الله, ويرونها أيضا مخالفة لثوابت العقل، لذلك اعتقد السنة عقيدة أخرى ظنوا من خلالها أنهم هربوا من القول بالتركيب والتجزؤ في ذات الله, فقالوا إن صفات الله هي صفات قائمة بذات الله ثابتة له لكنها زائدة على الذات, ومعنى هذه العقيدة هو أن لله ذات مجردة وفي نفس الوقت له صفات قائمة بالذات زائدة عليها, بمعنى أن صفات الله ليست هي عين ذاته بل زائدة على الذات, ويعني هذا مثلا: أن اسم الله (العليم) يدل على ذات الله المجردة ويدل أيضا على صفة الله المشتق منها هذا الاسم, وبالتالي يدل على الله بدلالتين أخريين, دلالة ضمنية ودلالة لازمة, وبتفصيل أكثر نقول : إن اسم الله (السميع) كما يعتقد أتباع المذهب السني هو اسم يدل على ذات الله المجردة عن الصفات ويدل ضمنيا على صفة السمع ويدل على صفة الحياة بالالتزام, بمعنى إذا كان الله سميعا فلزم أن يكون حيا ولو لم يكن به حياة فليس له سمع وهكذا في جميع الصفات.
ويمكننا أن نقرب الفهم أكثر وأكثر حول عقيدة أهل السنة في مسألة علاقة الأسماء والصفات بذات الله، فنقول المثال التالي: مثلا زيد لديه ثلاثة أبناء عمرو وأحمد وسعيد، فيرى أهل السنة أن زيد الأب هو وأبنائه الثلاثة يمثلون ذات زيد الواحدة، إلا أن زيد الأب ليس هو عمرو وأحمد وسعيد، وليس هو غيرهم، والأبناء عمرو وأحمد وسعيد ليسوا هم الأب زيد، وليسوا هم غيره، إلا أن الأب زيد مجردا والأبناء عمرو وأحمد وسعيد، هم جميعا شخص واحد هو ذات الأب زيد، وأن عمرو يدل على ذات زيد الأب المجردة ، ويدل ضمنيا على أحمد ويدل التزاما على سعيد.
هكذا عقيدة أهل السنة في علاقة ذات الله بأسمائه وصفاته، فهم يعتقدون أن لله ذات مجردة وأيضا له صفات قائمة به زائدة على الذات، فليست الذات هي الصفات وليست الذات غير الصفات، وليست الصفات هي الذات، وليست الصفات غير الذات، إلا أن الله الذات المجردة والصفات الزائدة هم معا يمثلون الله الواحد. وإذا سألت أهل السنة عن كيفية استساغة هذه الخلطة العجيبة من الناحية العقلية قالوا لك: دعك من هذا الكيف فهو أمر يتجاوز إدراك العقل!!!!!.
ومن المضحك المبكي هنا هو أن أهل السنة عابوا على الشيعة عقيدتهم في أنها تقول بالتركيب والتجزؤ في ذات الله، وأنها عقيدة لا يمكن للعقل استساغتها، فوقعوا هم ليس في القول بالتركيب في ذات الله، ولكن في القول بالتعدد في ذات الله وبطريقة أيضا لا يمكن للعقل استساغتها، وهنا يحضرني المثل الشعبي المصري الذي يقول: (جاء يكحلها عماها).
# عقيدة أهل السنة في القول بأن صفات الله زائدة على الذات:
هذه مسألة هامة نود إيضاحها في مسألة علاقة صفات الله بذاته سبحانه كما يعتقدها أتباع المذهب السني وهذه المسألة هي قولهم إن صفات الله (زائدة على الذات), فقد بحثت فيما لدي من مصادر عن معنى ومفهوم وكيفية أن تكون صفات الله زائدة على الذات فلم أجد ذكر كيفية أن تكون صفات الله قائمة بذاته لكنها زائدة على الذات سوى قول مقتضب لابن تيمية في مجموع الفتاوى، وقول آخر لا يتعدى سطرين لأبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة والجماعة, وقول آخر لابن قيم الجوزية في كتاب مدارج السالكين.
أما قول بن تيمية في مجموع الفتاوى فكالتالي: (وإذا قال من قال من أهل الإثبات للصفات أنا أثبت صفات زائدة على الذات, فحقيقة ذلك أنا نثبتها زائدة على ما أثبتها النفاة من الذات, فإن النفاة (الذين ينفون الصفات) اعتقدوا ثبوت ذات مجردة عن الصفات, فقال أهل الإثبات (أهل السنة) نحن نقول بإثبات صفات زائدة على ما أثبته هؤلاء) انتهى.
حد فاهم حاجة ؟!!!؟؟؟!؟!؟!.
أما قول أبو الحسن الأشعري إمام أهل السنة والجماعة فكالتالي: (هذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى زائدة على الذات، لا يقال : هي هو, ولا يقال: هي غيره, ولا يقال: لا هو, ولا يقال: لا غيره).
حد فاهم حاجة؟؟؟؟؟!!!!!!!.
أما قول بن قيم الجوزية فكالتالي: (إن الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن وكذلك على الذات المجردة عن الصفة ويدل على الصفة الأخرى باللزوم فإن اسم السميع يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن ويدل على اسم الحي وصفة الحياة بالالتزام وكذلك سائر أسمائه وصفاته).انتهى.
حد فاهم حاجة؟؟؟؟!!!!.
إذاً، يعتقد أتباع المذهب السني وأئمتهم وعلمائهم أن لله صفات, هذه الصفات هي قائمة بذات الله لكنها زائدة على الذات, وهذه العبارة لا تعني لأي أحد يقرأها إلا أن لله ذات مجردة ليس فيها صفات وإنما الصفات قائمة بالذات زائدة عليها, فذات الله مجردة عن الصفات والصفات زائدة على الذات, بمعنى أن ذات الله ليس فيها صفات وصفاته ليست في ذاته بل زائدة عليها, إذن فالله الواحد يتكون من ذات مجردة ومن صفات زائدة على الذات, بمعنى أن صفات الله ليست هي ذات الله وذات الله ليست هي صفات الله ولكنهما معا يمثلان الله الواحد. كيف؟؟ أهل السنة أعلى وأعلم!!!.
# مبررات عقيدة أهل السنة التي تقول بالصفات الزائدة على الذات:
تتلخص أهم المبررات في عقيدة أهل السنة هذه في أنهم ينزهون الله عن التركيب والتجزؤ في ذاته. لذلك قالوا في الصفات إنها قائمة بذات الله وليست فيها بل زائدة على الذات، وتبريرهم لهذا القول يكمن في اعتقادهم بأن الصفات لو كانت هي عين الذات لأصبح الله مركبا من الصفات أو محلا للصفات وهذا لا يتفق مع وحدانية الله وأحديته, لكنهم بمحاولتهم التخلص من عقيدة التركيب والتجزؤ وقعوا من حيث لا يدروا في عقيدة لا تقل وثنية عن عقيدة التركيب والتجزؤ ألا وهي عقيدة تعدد الإله، وماذا يمكن لذي عقل أن يفهم من هذا القول غير أن صفات الله زائدة على الله, وما دام أنها ليست هي ذاته إذاً، فبالضرورة هي شيء غير الذات وهذا يقتضي التعدد في الإله الواحد, إذ لا يمكن إطلاقا أن يتصور العقل أن صفات الله ليست هي الله وليست غيره في آن واحد.
# مطابقة عقيدة أهل السنة بعقيدة المسيحيين الكاثوليك:
كما هو معلوم للمطلع على تاريخ العقيدة المسيحية أن الخلاف بدأ بين المسيحيين حول تصور علاقة طبيعة الله بالطبيعة البشرية في شخص المسيح بن مريم، وفي لمحة تاريخية سريعة، تذكر لنا المصادر المسيحية أنه في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي عندما توصل القس الليبي أريوس إلى عدم وجود لاهوت في شخص المسيح وأن المسيح لم يكن إلها بل هو مجرد إنسان مخلوق، مما دعا الإمبراطور قسطنطين الكبير وهو أول من آمن من أباطرة الرومان بالمسيحية إلى عقد اجتماع دعا إليه جميع كنائس المسكونة (الأرض) وكان ذلك في عام 325م وانتهى هذا الاجتماع إلى عدة قرارات كان أهمها وضع قانون الإيمان على النحو التالي:
(بالحقيقة نؤمن بإله واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر).
وفي عام 381م ظهرت عدة تعاليم جديدة حول علاقة اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح, فقد نادى أسقف الشام (أبوليناريوس) بأن الابن عند تجسده حل لاهوته محل الروح الجسدية وتحمل الآلام والصلب مع الجسد, كما نادى هذا الأسقف أيضا بأن هناك تفاوت بين الأقانيم الثلاثة بمعنى أن الروح عظيم والابن أعظم منه أما الأب فهو الأعظم من الكل.
أما (أوسابيوس) فقد نادى بعدة تعاليم جديدة حول علاقة اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح، فكان يعتقد بأقنوم واحد وليس ثلاثة أقانيم وهذا الأقنوم ظهر في العهد القديم كأب, وصار إنسانا في العهد الجديد بصفة الابن, وحل على الرسل في علية صهيون بصفة الروح القدس.
أما (مقدونيوس) فقد توصل إلى أن أقنوم الروح القدس ما هو إلا مخلوق يشبه الملائكة لكن ذو رتبة عالية.
وفي نفس العام تم عقد مجمع القسطنطينية سنة 381م وقد توصل المجمع إلى قرار ينص على التالي: (نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب).
وفي عام 431م توصل الأسقف (نسطور) أسقف القسطنطينية إلى أن مريم لم تلد إلها بل ما يولد من الجسد فهو جسد وما يولد من الروح فهو روح, وأن العذراء ولدت إنسانا عبارة عن آلة للاهوت, وأن المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء بالبركة وهو ملهم من الله لم يرتكب خطيئة, وعلى أثر ذلك تم عقد اجتماع في نفس العام توصل هذا الاجتماع إلى التالي:
(نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله).
وفي عام 449م توصل (أوطاخي) الذي كان يشغل منصب رئيس دير في القسطنطينية إلى أن جسد المسيح ليس مساويا لأجسادنا في الجوهر لأن الطبيعة الإلهية لاشت الطبيعة البشرية وأن اللاهوت اختلط وامتزج بالناسوت, فتم عقد اجتماع في نفس العام وتوصل هذا الاجتماع إلى تبرئة (أوطاخي) بعد أن رجع عن آرائه, وفي هذا الاجتماع تم حرمان (فلايبانوس) أسقف القسطنطينية لأنه كان يؤمن أن المسيح بعد تجسده كان له طبيعتين ومشيئتين, وقرر المجمع أيضا (أن اللاهوت اتحد بالناسوت وأصبحا طبيعة واحدة بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير).
وفي عام 451م لم يقبل بابا روما قرارات المجمع السابق الذي كان يسمي بمجمع (أفسس الثاني) ورفض العقيدة التي تقول إن اللاهوت اتحد في الناسوت وأصبحا طبيعة واحدة بغير اختلاط أو امتزاج أو تغيير, بينما تبنى بابا روما عقيدة مخالفة تماما وهذه العقيدة تنص على أن المسيح بعد تجسده كان له طبيعتين ومشيئتين.
ومن هنا بدأ الانشقاق الأكبر بين أتباع الديانة الواحدة إلى فرقتين:
الفرقة الأولى: وهم الأرثوذكس وهم مسيحيو الشرق الذين آمنوا بأن اللاهوت والناسوت اتحدا في طبيعة واحدة دون اختلاط أو امتزاج أو تغيير في هذا الاتحاد.
الفرقة الثانية: وهم الكاثوليك وهم مسيحيو الغرب, وهؤلاء آمنوا بأن اللاهوت والناسوت اتحدا في شخص المسيح إلا أنه كان له طبيعتين ومشيئتين، طبيعة إلهية وطبيعة بشرية.
إذاً، خرج الكاثوليك بعد الانشقاق من هذا المجمع الأخير مجمع خلقدونية بعقيدة تختلف عن عقيدة الأرثوذكس, هذه العقيدة تنص على أن شخص المسيح الواحد فيه طبيعتان, غير متغيرتين ولا ممتزجتين وغير منفصلتين ولا منقسمتين وأن هاتين الطبيعتين تواجدتا جنبا إلى جنب وحصل بينهما اتحاد في الشخص الواحد شخص المسيح.
# العقيدة الكاثوليكية في طبيعة المسيح:
وبشيء من التفصيل لهذه العقيدة فقد قمت بتلخيص وتبسيط وصياغة هذه العقيدة من دراسة للكاثوليكي د. هيرمان بافنيك، بعنوان: (بين العقل والإيمان الجزء 3، كيف نفهم طبيعة المسيح وأعماله) الترجمة العربية، ويبدو أنه كان ينتقد عقيدة الأرثوذكس التي تقول باتحاد الطبيعتين في طبيعة واحدة، وذلك على النحو التالي:
(يعتقد المسيحيون الكاثوليك أن المسيح (الله) اتخذ طبيعته البشرية من مريم وهذه الطبيعة فيه هي طبيعة بشرية كاملة, بمعنى أن الجنين الذي حبلت به مريم كان منذ البداية ابن الله, بمعنى أن الله صار جسدا من اللحظة الأولى لتكون الطبيعة البشرية في رحم مريم، وهكذا تم الإبقاء على ثنائية الطبيعة ووحدة الشخص، بمعنى أن شخص المسيح الواحد له طبيعتين, طبيعة لاهوتية وطبيعة بشرية. وبالتالي اجتمع في شخص المسيح الواحد أفعال إلهية وأفعال بشرية في آن واحد, ففيه الحضور في كل مكان وفيه المحدودية وفيه القدرة الإلهية الخالقة وفيه الضعف الذي تتميز به جميع المخلوقات.
وحسب العقيدة الكاثوليكية أيضا فإن اتحاد الطبيعتين في المسيح لا يمكن أن يكون اتحاد شخصين، كلا, وإنما المسيح يحتل مكانة فريدة حيث لم يتحد بالإنسان بطريقة معنوية, بل أعد لنفسه طبيعة بشرية في أحشاء مريم فأصبح الله كائنا بشريا وعبدا في الوقت نفسه, فتجول المسيح على الأرض في صورة عبد وهو الكائن في صورة الله, فلم يكن الاتحاد الذي نتج من تجسده اتحادا معنويا بين شخصين, بل اتحاد طبيعتين في الشخص الواحد بعينه, فالمسيح الإنسان هو بعينه الله فاتحاد الله هذا بالإنسان هو أمر فريد لا مثيل له ولا يمكن للعقل أن يتصوره. (عقيدة غير عقلية)
وأيضا ترفض العقيدة الكاثوليكية رفضا باتا القول بأن الطبيعتين الإلهية والبشرية عند التجسد مباشرة انصهرتا في طبيعة واحدة إلهية إنسانية – كما يعتقد الأرثوذكس– فقد ظلت الكنيسة الكاثوليكية على الدوام تقاوم وترفض فكرة انصهار الطبيعتين الإلهية والبشرية في طبيعة واحدة معتقدين أن هذا القول يؤدي إلى مزج الطبيعتين وخلطهما وبالتالي إنكار الفرق في جوهر الطبيعتين الله والإنسان, الخالق والمخلوق. ويعتقد الكاثوليك أيضا أن بين الطبيعتين الإلهية والبشرية علاقة وثيقة تبرز إلى الوجود في شخص واحد هو المسيح إلا أن الطبيعتين يظلا متميزتين ومختلفتين من حيث الجوهر والخصائص.
ويعتقد الكاثوليك أيضا أن انصهار الطبيعتين في طبيعة واحدة يؤدي إلى امتزاج أو اختلاط, وبالتالي يؤدي إلى نقصان إما في الطبيعة الإلهية أو نقصان في الطبيعة البشرية من حيث جوهر كل منهما, ويعتقد الكاثوليك أيضا أنه بغير التمييز بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في الجوهر يؤدي حتما إلى عبادة المخلوق وتأليهه وهي الطبيعة البشرية في شخص المسيح الواحد ويعد هذا وثنية)انتهى.
ويمكن مطالعة نص هذه الدراسة على الرابط التالي:
http://www.kalimatalhayat.com/doctrine/Faith-Reason-3/Faith-Reason-3013.htm
http://www.kalimatalhayat.com/doctrine/Faith-Reason-3/Faith-Reason-3014.htm
# مبررات العقيدة الكاثوليكية التي تقول بالطبيعتين:
1-القول بطبيعة واحدة للمسيح يؤدي إلى الخلط بين الطبيعة البشرية والطبيعة الإلهية.
2-عدم التمييز بين الطبيعتين يؤدي حتما إلى الوثنية حيث التوجه بالعبادة سيكون للطبيعة البشرية المختلطة والممتزجة في الطبيعة الإلهية.
3- القول بطبيعة واحدة يؤدي إلى المساواة بين الله والإنسان، وبين الخالق والمخلوق.
# أوجه التشابه والتطابق بين عقيدة أهل السنة وعقيدة الكاثوليك:
1-يعتقد أتباع المذهب السني أن الله ذات مجردة ولكن له صفات زائدة على الذات يمثلان معا الله الواحد.
بينما يعتقد أتباع المذهب الكاثوليكي المسيحي أن شخص المسيح عبارة طبيعة إلهية وطبيعة بشرية يمثلان معا شخص المسيح الواحد.
2-يعتقد أتباع المذهب السني أن لله ذات مجردة وله صفات زائدة هذه الصفات ليست هي ذات الله، وذات الله ليست هي صفاته.
بينما يعتقد أتباع المذهب الكاثوليكي أن شخص المسيح له طبيعتين, طبيعة إلهية مجردة في جوهرها ليست هي الطبيعة البشرية، وطبيعة بشرية مجردة في جوهرها ليست هي الطبيعة الإلهية.
3- يعتقد أتباع المذهب السني أن ذات الله المجردة وصفاته الزائدة مجتمعين يمثلان الله الواحد.
بينما يعتقد أتباع المذهب الكاثوليكي أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية اتحدا معا فكونا شخص المسيح الواحد.
4- يعتقد أتباع المذهب السني أن ذات الله مجردة عن الصفات، بمعنى ليس فيها صفات بينما الصفات زائدة عليها, وعليه فلا يقال الصفات هي ذات الله ولا يقال ذات الله هي الصفات.
بينما يعتقد أتباع المذهب الكاثوليكي أن شخص المسيح الواحد عبارة عن طبيعة إلهية وطبيعة بشرية وعليه فلا يقال إن الطبيعة الإلهية هي الطبيعة البشرية ولا يقال إن الطبيعة البشرية هي الطبيعة الإلهية.
5- يعتقد أتباع المذهب السني أن القول بأن صفات الله هي عين ذاته يؤدي حتما إلى تعدد القدماء الأزليين ويصبح في ذات الله اختلاط وتركيب وتجزؤ وهذا يعد وثنية.
بينما يعتقد أتباع المذهب الكاثوليكي أن من يقول بأن الطبيعة الإلهية اتحدت مع الطبيعة البشرية فأصبحتا طبيعة واحدة يؤدي حتما إلى الخلط والامتزاج بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية وهذا يعد وثنية.
ملحوظة:
قد يعترض البعض ويقول لكن صفات الله ليست مخلوقة ولا يمكن مشابهتها بالطبيعة البشرية المخلوقة للمسيح؟ وللرد على هذا نقول: إن صفات الله مخلوقة كطبيعة المسيح البشرية، وسوف نفصل هذا في موضعه في الجزء الثالث من هذه الدراسة.
وأخيراً يبرز السؤال الهام والكبير والخطير: هل العقيدة الإلهية السنية هي في الأصل عقيدة إلهية كاثوليكية، باعتبار أن العقيدة الكاثوليكية لها السبق في الوجود على العقيدة السنية؟؟؟؟. والإجابة مفتوحة للجميع.
وللحديث بقية في المقال القادم إن شاء الله حول (العقيدة الأرثوذكسية للمذهب الشيعي والمعتزلي).
nehro_basem@hotmail.com
1 commentaire:
هرطقات الكافر الخبيث / ياسر حبيب لعنه الله ومن على شاكلته .
http://hewaar2.blogspot.com/
Enregistrer un commentaire