الدعوة الى الدفاع عن شريحة من المسلمين تحاول أن تعيد النظر أو تفلتر أو حتى تقطع علاقتها بتاريخ الدين، هي دعوة مشروعة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. فهذه الشريحة ـ كما قلنا سابقا ـ لا تسعى في الواقع الى قطع علاقتها بالله أو بالوحي، ولا بعقائدها الايمانية والمعنوية، وانما تريد أن تضع حدا لعلاقتها التقليدية المادية والمصلحية بالتاريخ الديني، وتسعى لانتشال الإيمان من مستنقع الصراع المادي من أجل الحفاظ على الانسان والمجتمع ورفع وصاية رجال الدين عنهما، فهي ـ كما ذكرنا ـ ترفض قبول التبعية المقدسة للتاريخ، وتعارض الخضوع للماضي الاجتماعي الديني الساعي الى أن يصبح أساسا لحياتها في الحاضر، وتأبى منهج التقليد، تقليد الامام والفقيه غير المنتمي للواقع الراهن ولأسس الحياة الجديدة. وحسب تلك الشريحة فان بناء علاقة ايمانية ومعنوية متميزة في المجتمع يحتاج الى نشر فهم للدين تصب مخرجاته في هذا الاطار، فهم يخدم الجانب القيمي والمعنوي والأخلاقي للانسان والخوض في المسائل الروحية المعنوية بعيدا عن تداخلها بالمسائل السياسية والاجتماعية والمصلحية، والذي من شأنه ألا يهدد الايمان الفطري بأي شائبة مادية تعرقل مسيره، كما سيحرر العقل من وصاية الخطاب الديني التقليدي التاريخي.
فحينما نقسم أمور الدين الى ذاتية والى عرضية، فان الهدف من ذلك هو الوصول الى فهم ديني يخدم الجانب القيمي والمعنوي والأخلاقي للانسان، أي الخوض في المسائل الروحية والمعنوية بعيدا عن تداخلها بقضايا العقل أو قضايا الحياة العامة، وهو ما سيؤدي الى درء التناقضات المتعلقة بالفهم الديني. كيف ذلك؟
ان مسائل الدين الذاتية هي الأمور التي يدعو اليها الأنبياء أينما بعثوا وفي أي مجتمع كانوا وفي أي مرحلة من مراحل التاريخ تواجدوا، فهي أمور لا تتعلق بالوقت ولا بالزمان والمكان. بينما أمور الدين العرضية فهي التي تتوافق فيها الدعوة والنشر مع ظروف المجتمع وظروف الزمان والمكان والتاريخ والثقافة. فاللغة العربية، بوصفها لغة القرآن الكريم والدعوة الاسلامية، كانت لغة المجتمع الذي جاءت فيه الدعوة، لذلك تعتبر من الأمور العرضية في الدين، وبما أن رسول الاسلام عربي والمجتمع الذي كان فيه عربي فان لغة القرآن بطبيعة الحال أصبحت أيضا عربية.
ففصل الذاتي عن العرضي هو من الضرورات التي تؤسس لعلاقة ايمانية فطرية مع الله لا علاقة مادية مصلحية تستند الى التاريخ الديني. فعلى سبيل المثال نجد في التاريخ الاسلامي العديد من الخلافات والنزاعات بين المسلمين، وقد ارتبطت غالبيتها العظمى بقضايا الدين العرضية حيث كانت بعيدة عن ذات الدين وجوهره. أي أن تلك النزاعات كان يمكن لها ألا تقع، وسواء وقعت أو لم تقع فانها لم ترتبط بذات الدين. لذلك نجد أن المبالغة في تسليط الضوء على تلك الخلافات كانت سببا في تنازع المسلمين وبروز هوة شاسعة بين غالبيتهم العظمى وبين ذات الدين. وبعبارة أخرى، أدت القضايا العرضية الى بروز خلافات عديدة بين المسلمين ما زالت ظواهرها ملموسة في عالم اليوم، في حين كان من المفروض ألا تؤثر هذه الخلافات على قربهم من ذات الدين وعلى ايمانهم الفطري غير المصلحي، وكان لزاما أن تقوم المعرفة الدينية على أسس واضحة ترفض خلط الذاتي بالعرضي.
ان المبدأ الذي يجب أن يسود في اطار أمور الدين الذاتية والعرضية هو أن يكون مستندا الى التالي: اعادة تفسير التاريخ الاسلامي من أجل فصل جوهر وذات الدين عن موضوعاته وعرضياته المتأثرة بالظروف السياسية والاجتماعية والثقافية، والتي أثرت بدورها على الجانب الروحي والقيمي والأخلاقي للرسالة الدينية. فمن المفترض أن تكون لعملية نشر الدين نكهة خاصة مرتبطة بمجتمع خاص له تاريخ وثقافة خاصة. ولو كان رسول الاسلام قد ظهر في بقعة جغرافية أخرى غير مجتمع قريش العربي فان لغة وخطاب وطريقة نشر الدين كانت ستتفاوت وتتغير.
النتيجة اذن أنه بفصل الذاتي عن العرضي ستتحرر المسائل المرتبطة بالذات من سلطة الموضوعات العرضية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي الى سلاسة أكبر في حل الخلافات بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم، لأنها خلافات لا تتعلق بذات الدين وانما ترتبط بقضايا الدين العرضية أو بقضايا الحياة، كما أن وجودها أو انحسارها يجب ألا يؤثر على جوهر الدين. فالخلافات السنية الشيعية الراهنة عبارة عن قضايا ترتبط بأمور الدين العرضية، ومسببات القتل الارهابي باسم الدين لا تتعلق بذات الدين، والصراعات السياسية العربية والاسلامية مع مختلف الأطراف الدولية ومن ضمنها القضية الفلسطينية تنتمي الى ظروف تاريخية لا دخل لذات الدين فيها. لكن المدرسة الدينية التقليدية والاسلام السياسي استغلا عرضيات الدين لبسط نفوذهم، ليس صونا لذات الدين بل سعيا للوصاية على الشعوب باسم الدين وفق القوانين التاريخية التي لا علاقة لها بواقعنا الراهن.
وفي هذا الصدد، يشير المفكر الايراني الدكتور عبد الكريم سروش في كتابه «القبض والبسط في الشريعة» إلى أن «لبوس الثقافة القومية من لغة وأذواق وأساليب حياة ونقاط ضعف وقوة عقلية وخيالية وعادات وتقاليد ومألوفات ومسلمات فكرية وخزين لغوي ومفاهيمي يضيف على جسد العقيدة والفكر ويخلع عليه نواقصه وكمالاته لا محالة». ثم يطرح سروش تساؤلا في هذا الاطار وهو: هل تبقى عرضيات الاسلام هي نفسها لو نزل القرآن بلغة أخرى؟ ويجيب: «لا جدال في أن الاسلام لو نزل في اليونان أو الهند أو بلاد الروم بدل الحجاز لكانت عرضيات الاسلام اليوناني والهندي المتغلغلة الى أعماق طبقات النواة المركزية تختلف اختلافا كبيرا عن الاسلام العربي، ولوفرت الفلسفة اليونانية المتينة على سبيل المثال أدوات لغوية ومناهجية، ومنظومة مفرداتية خاصة لنبي الاسلام تغير معالم خطابه، كما أن الاسلام الايراني والهندي والعربي والأندونيسي اليوم، وبعد قرون من التحولات والتفاعلات، تمثل أنماطا من الاسلام تختلف عن بعضها بشهادة أدبياتها ونتاجاتها، ولا تقف التباينات عند تخوم اللغة والظواهر بل تمتد الى أعماق الوعي والثقافة الدينية». اذا، العرضيات في الدين تعكس الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحضر مع حضور الدين في المجتمع لتضفي عليه نكهة خاصة، غير أن هذه النكهة يجب أن تعين موضوع الايمان لا أن تشوهه، وأن تساهم في وقف الخلافات بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم، والمستندة الى تاريخ الدين، وأن تؤسس لدين يرفض قتل الواقع واجهاض التطور، دين في الضد من الوصاية التاريخية على العقل ومواكب للحداثة.